السؤال:
ما هو تفسير الآية 25 من سورة مريم، بسم الله الرحمن الرحيم: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} ؟
الجواب:
{ فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً}.
مريم (عليها السلام) امرأة والمرأة عادة يصعب عليها أن تهز شجرة صغيرة فكيف بالنخلة وهي شجرة جذعها متين ويصعب على الرجل هزّها فضلاً عن المرأة ؟ وأضف إلى هذا أنّ مريم حديثة ولادة وبالتالي فهي مجهدة وتحتاج للراحة وأن يهتم بها غيرها ويعد لها ما تحتاج من طعام؛ ولهذا نجد الناس عادة ترحم المرأة حديثة الولادة فيأتي بعض أقاربها من النساء ويلون احتياجاتها، فكيف يرحم الناس نساءهم ولا يرحم الله مريم المنقطعة إليه بالعبادة فيكلّفها بهزّ جذع النخلة ؟!
ألم يكن بالإمكان أن يُنزل الله الرطب من النخلة لأي سبب يسببه الله، ولماذا لم يستمر ما كان يحصل مع مريم سابقاً عندما كانت في بيت العبادة وكان طعامها يأتيها دون أي عمل وهي الآن مجهدة بدنياً ونفسياً وفي أشد الحاجة أن يأتيها طعامها دون أن تعمل؟!!!
الحقيقة إنّ سبب أمر الله لمريم أن تهزّ جذع النخلة هو أنها خرجت من بيت العبادة والانقطاع إلى الله إلى دنيا الناس فعليها أن تبذل جهداً لتحصل على طعامها، وعليها أن تبذل جهداً للحفاظ على خليفة الله عيسى (عليه السلام)، وعليها أن تبذل جهداً لتحافظ على نفسها، عليها الآن أن تعمل بالأسباب، هذه هي الرسالة التي وصلت لمريم (عليها السلام) بهزّ جذع النخلة.
أمّا مسألة هل هي بذلت جهداً في هزّ الجذع؟ ولماذا لم يرحمها الله ويأتيها بالطعام كما كانت سابقاً؟ فجوابها بسيط؛ وهو أن نعرف كيف هزّت مريم جذع النخلة فهي لم تحتج أن تهزّها بقوتها بل هي بمجرد أن امتثلت لأمر الله ووضعت يدها على جذع النخلة بدأت النخلة تهتز بقوّة وتساقط الرطب، وكان هذا الأمر في غاية الحكمة، فهو إضافة إلى ما تقدّم قد حصل بهذه الصورة ليكون سلساً مقبولاً ولا تفاجأ وتخاف مريم (عليها السلام) نتيجة هذا الحدث كما حصل مع موسى (عليه السلام)؛ {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ}، { وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ}، فلو أنّ مريم (عليها السلام) جلست بقرب نخلة واهتزت هذه النخلة بقوّة دون معرفتها فهي أكيد تفاجئ وتخاف، أمّا لو حصل الأمر كما بينه الله تعالى فلن يكون مفاجئاً، فمريم اُمرت أن تهزّ جذع النخلة وليس فقط تضع يدها على النخلة فالله لم يقل لها ضعي يدك على النخلة واهتزت النخلة؛ لأنّ هذا أيضاً سيكون فيه مفاجئة لها وربما خافت، ولكنه قال لها هزي إليك فمسكت النخلة بيديها وهي تعلم أنها تريد أن تهزّ النخلة وأنّ النخلة ستهتز لأنّ الله أراد هذا، وبهذا فهي لن تفاجأ باهتزاز النخلة ولن تخاف أبداً؛ لأنها على علم تام بما تريد أن تفعل وما يريد الله أن يحصل، وبهذا فسبب اهتزاز النخلة سيكون معروفاً عند مريم وأنه من الله، وبهذا سيكون أمراً يزيد اطمئنانها وليس خوفها بل ويكون أيضاً إظهاراً للقوّة الالهية التي كانت تحيط بمريم (عليها السلام) لمريم (عليها السلام)، فتعرف مريم (عليها السلام) أنّ هناك ملائكة تحيطها وتحرسها وتحفظها من كيد الذين سيقولون {يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً}، وبهذا كان هذا الحدث (هزي اليك بجذع النخلة) حجراً إلهياً حقق أموراً كان يريدها الله، فعرفت مريم (عليها السلام) عندما اُمرت بهزّ الجذع أن عليها من هذا اليوم أن تعتمد الأسباب وتعمل بالأسباب لتربية وتنشئة خليفة الله حتى يحين وقت بعثه، ولم تفاجا مريم (عليها السلام) باهتزاز جذع النخلة كما تفاجا موسى (عليه السلام) باهتزاز العصا لما تحولت أفعى، فمريم (عليها السلام) كانت متعبة ومرهقة من الولادة فعاملها الله بغاية الرحمة ولم يشأ أن تفاجأ حتى باهتزاز جذع النخلة، وعلمت مريم (عليها السلام) من اهتزاز جذع النخلة أنّ هناك قوّة عظيمة تحيطها؛ هذه القوّة هزّت جذع النخلة الذي يصعب هزّه، بل وهزته بقوّة وأسقطت منه الرطب بكل يسر، وبهذا أزداد اطمئنان مريم (عليها السلام) النفسي وقويت عزيمتها على مواجهة من سيقولون { يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً}، فجاءت بالمولود إلى من كانوا ينتظرونه والذين يفترض أنّهم ينصرونه، هي لم تأتي به إلى اليهود المعاندين، بل جاءت به إلى من كانوا ينتظرون ولادته سابقاً وتفاجأوا بأنّ المولود أنثى وهي مريم (عليها السلام)، الآن جاءتهم مريم بالمولود الذي ينتظرونه ويترقبون ولادته، بل وكانوا ينتظرون ولادته من والدي مريم بالخصوص؛ أي لم يحصل أي تغيير كبير فقط بدل أن يكون المولود هو مريم أصبح المولود المنتظر هو ابن مريم (عليه السلام)، فكانت كلماتهم الموجهة لمريم (عليها السلام) هي أقذر ما يمكن أن تتهم به امرأة وهو الفاحشة { يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} أي أنّ عيسى (عليه السلام) شيء مفترى ! أي ابن حرام ! هذه هي كلمات المؤمنين المنتظرين الذين كانوا يعتقدون أنّ المخلص المنتظر لهم سيكون من والدي مريم (عليها السلام) بالخصوص !! فماذا كان ممكناً أن تنتظر مريم (عليها السلام) من القسم الآخر من اليهود الذين كانوا عبارة عن علماء الهيكل وأتباعهم وهم كانوا قبل هذا الحدث يمقتون مريم (عليها السلام) ويتربصون بها الدوائر فكانت المعجزة التي لابد منها لتنجو مريم (عليها السلام) من كيدهم، وهي كلام الصبي في المهد فشاء الله أن يؤمن عدد ممن حصلت هذه المعجزة أمامهم، آمنوا لأنهم يؤمنون بالغيب ولم يؤمن من كانوا يريدون معجزة قاهرة فقالوا هذا سحر وقالوا نطق على لسانه شيطان من الجن وقالوا أوهام، وهكذا لم يعدموا حجة ليكفروا به كما هو حال أكثر الناس دائماً للأسف، وعاد عيسى (عليه السلام) إلى حالته الطبيعية كصبي ليدخل دنيا الامتحان ويحقق نتيجته في الامتحان عن استحقاق ولتتحقق عدالة الله فنسي ما حصل من نطقه في المهد كما نسي حاله في الذر لما حجب بالجسد، وأخذت مريم عيسى (عليه السلام) وابتعدت عنهم لتربيه وتحافظ عليه حتى يبعثه الله ويؤدي رسالته، وأيضاً في نفس الوقت فإنّ هذه الحادثة جعلت الانتظار يستمر بين المؤمنين وإن كان عددهم قليلاً فلما بعث عيسى (عليه السلام) وجد من كانوا ينتظرونه وتهيؤوا في غيبته التي استمرت من ولادته إلى بعثه فقاموا معه ونصروا دين الله.
عن يزيد الكناسي قَالَ سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام): (أَ كَانَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ (عليه السلام) حِينَ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ حُجَّةَ اللَّهِ عَلَى أَهْلِ زَمَانِهِ فَقَالَ: كَانَ يَوْمَئِذٍ نَبِيّاً حُجَّةَ اللَّهِ غَيْرَ مُرْسَلٍ أَمَا تَسْمَعُ لِقَوْلِهِ حِينَ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا. وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا. قُلْتُ: فَكَانَ يَوْمَئِذٍ حُجَّةً لِلَّهِ عَلَى زَكَرِيَّا فِي تِلْكَ الْحَالِ وَهُوَ فِي الْمَهْدِ فَقَالَ: كَانَ عِيسَى فِي تِلْكَ الْحَالِ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَ اللَّهِ لِمَرْيَمَ حِينَ تَكَلَّمَ فَعَبَّرَ عَنْهَا وَكَانَ نَبِيّاً حُجَّةً عَلَى مَنْ سَمِعَ كَلَامَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ ثُمَّ صَمَتَ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى مَضَتْ لَهُ سَنَتَانِ وَكَانَ زَكَرِيَّا الْحُجَّةَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى النَّاسِ بَعْدَ صَمْتِ عِيسَى بِسَنَتَيْنِ ثُمَّ مَاتَ زَكَرِيَّا فَوَرِثَهُ ابْنُهُ يَحْيَى الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَهُوَ صَبِيٌّ صَغِيرٌ أَمَا تَسْمَعُ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا فَلَمَّا بَلَغَ عِيسَى (عليه السلام) سَبْعَ سِنِينَ تَكَلَّمَ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ حِينَ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ فَكَانَ عِيسَى الْحُجَّةَ عَلَى يَحْيَى وَعَلَى النَّاسِ أَجْمَعِينَ وَلَيْسَ تَبْقَى الْأَرْضُ يَا أَبَا خَالِدٍ يَوْماً وَاحِداً بِغَيْرِ حُجَّةٍ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ مُنْذُ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ (عليه السلام) وَأَسْكَنَهُ الْأَرْضَ. فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ أَ كَانَ عَلِيٌّ (عليه السلام) حُجَّةً مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فَقَالَ: نَعَمْ يَوْمَ أَقَامَهُ لِلنَّاسِ وَنَصَبَهُ عَلَماً وَدَعَاهُمْ إِلَى وَلَايَتِهِ وَأَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ. قُلْتُ: وَكَانَتْ طَاعَةُ عَلِيٍّ (عليه السلام) وَاجِبَةً عَلَى النَّاسِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله)وَبَعْدَ وَفَاتِهِ فَقَالَ: نَعَمْ وَلَكِنَّهُ صَمَتَ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وَكَانَتِ الطَّاعَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) عَلَى أُمَّتِهِ وَعَلَى عَلِيٍّ (عليه السلام) فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وَكَانَتِ الطَّاعَةُ مِنَ اللَّهِ وَمِنْ رَسُولِهِ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ لِعَلِيٍّ (عليه السلام) بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وَكَانَ عَلِيٌّ (عليه السلام) حَكِيماً عَالِماً).
المصدر:
الإمام أحمد الحسن كتاب الجواب المنير عبر الأثير الجزء السابع.
مواضيع مشابهة:
لماذا خاطب بنو إسرائيل مريم (عليها السلام) ب: "يا أخت هارون" ؟
ماهو الرزق الذي كان ينزل على مريم (عليها السلام ) ؟
ماهو سر قميص نبي الله يوسف (عليه السلام) الذي ذكره الله أكثر من مرة في القرآن؟
إضاءة من إخلاص داوود (عليه السلام).
لماذا قتل قابيل أخاه هابيل (عليه السلام)؟
إرسال تعليق