{ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ}.
يوسف الآن محاصر من أعداء الله، فإما الفاحشة وإما السجن، وهم الذين حددوا هذين الطريقين، ويوسف لم يخرج عن هذين الخيارين، ولكنه اختار ما يضره دنيوياً ومادياً، وهو السجن، دون ما يضره أخروياً وروحياً، وهو الفاحشة، خيار طبيعي، ولا أحد يتوقع سواه من وصي يعقوب النبي الرسول يوسف .
قال أمير المؤمنين علي : (... ولي بيوسف أسوة، إذ قال رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ، فإن قلتم إنّ يوسف دعا ربّه وسأله السجن بسخط ربّه فقد كفرتم، وإن قلتم إنّه أراد بذلك لئلّا يسخط ربّه عليه فاختار السجن، فالوصيّ أعذر...).
ولكن السؤال: هل عند الله نجاة يوسف من كيدهن محصورة بالسجن، أم أنه توجد سبل متعددة لنجاته من كيدهن، دون أن يقع عليه أذى السجن ؟!
أعتقد أن جواب هذا السؤال بسيطاً على من يعتقد أن السماوات والأرض لو كانتا على عبدٍ رتقاً واتقى الله لجعل له الله منهما مخرجاً.
ولو كان يوسف غفل عن هذه الحقيقة {..... وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}، ولم يلتفت أن عند الله سبيلاً آخر، بل أكثر من سبيل غير السجن لنجاته من كيدهن.
عن أبي الحسن الرضا ، قال: (قال السجان ليوسف: إني لأحبك، فقال يوسف: ما أصابني بلاء إلا من الحب إن كانت عمتي أحبتني فسرقتني، وإن كان أبي أحبني فحسدوني إخوتي، وإن كانت امرأة العزيز أحبتني فحبستني، قال: وشكا يوسف في السجن إلى الله فقال: يا رب بماذا استحققت السجن، فأوحى الله إليه أنت اخترته حين قلت ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾، هلا قلت العافية أحب إلي مما يدعونني إليه) .
أوَ ليس الله بقادر على أن يُذكِّر يوسف بهذه الحقيقة، ويجعله يدعو بهذا الدعاء: (العافية أحب إلي مما يدعونني إليه)، بدل أن يقول: { السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}.
وهل يعتقد أحد أن يوسف لم يكن يعرف هذه الحقيقة، وهو الذي وكل أمره من قبل عندما كان في الجب إلى إله إبراهيم، ولم يختر هو الخروج أو البقاء.
عن أبي عبد الله ، قال: (لما طرح إخوة يوسف يوسف في الجب دخل عليه جبرئيل وهو في الجب، فقال: يا غلام من طرحك في هذا الجب، فقال له يوسف: إخوتي لمنزلتي من أبي حسدوني ولذلك في الجب طرحوني، قال: فتحب أن تخرج منها، فقال له يوسف: ذاك إلى إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، قال: فإن إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب يقول لك: قل اللهم إني أسألك بأن فإن لك الحمد كله لا إله إلا أنت الحنان المنان بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ صل على محمد وآل محمد واجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً وارزقني من حيث أحتسب ومن حيث لا أحتسب، فدعا ربه فجعل الله له من الجب فرجاً ومن كيد المرأة مخرجاً وأعطاه ملك مصر من حيث لم يحتسب).
فلماذا غفل الآن عن أن يقول: (ذاك إلى إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب) ؟
وهل يعتقد أحد أن يوسف لا يستحق أن يذكره الله، أو أنه ليس أهلاً لذلك، أم هل يعتقد أحد أن في ساحته سبحانه وتعالى بخلاً عن أن يتفضل بتذكير وتعليم يوسف نبيه الكريم أن يدعو بهذا لينجو من المكر والسجن معاً، ألم يرسل سبحانه وتعالى جبرائيل ليُذكِّر يوسف ويعلمه الدعاء لينجو من الجب.
لماذا الآن الله سبحانه وتعالى الكريم الرؤوف الرحيم يترك يوسف في حيرته، ولا يُذكِّره ولا يُعلِّمه دعاءً ينجو به من المكر والسجن معاً ؟! لماذا الآن يوسف لا يجد أمام عينيه سبيلاً لنجاته من المكر إلا السجن ولا يجد إلا هذا الدعاء: {السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} ؟!!
إن هذا السؤال وغيره من الأسئلة في مسيرة يوسف يجيبه تعالى في آية عظيمة من آيات سورة يوسف، فيبين فيها تعالى أن كل سكنة وحركة وغفلة وذكرى وعلم وجهل هي ضرورية في مسيرة تمكين وتعليم يوسف ، يقول تعالى في هذه الآية: أنا أمسك بمعصم يوسف وأقوده إلى التمكين والعلم والمعرفة {كَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
إذن، فمن هذه الآية {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} نعرف أن دخول يوسف السجن واقع ضمن حكمة إلهية، وأكيد أنه يصبّ في تمكين يوسف وتعليمه، بل وأدائه لرسالته الإلهية.
أما تعلق السجن بتمكين يوسف وتعليمه، فقد تبين فيما مضى من الإضاءات، وأما تعلق دخول يوسف إلى السجن بأدائه لرسالته فهو ما أريد بيانه، ويتلخص في أمور منها:
1- إنَّ يوسف إن كان قد صدع برسالته من الله خارج السجن ولم يتحصل إيمان أي شخص به، فلابد من إيجاد محيط آخر لتبليغ الرسالة.
2- يوسف خارج السجن عبد مملوك، ولا شك أن حال العبد المملوك في داخل السجن أكثر حرية منه وهو في خارج السجن وتحت سلطة مولاه، فإنّ قيد العبودية أعظم من قيود السجن. فالسجن وفرَّ ليوسف وقتاً أكثر وجواً أكثر حرية ليصدع بدعوة التوحيد.
3- في السجن الكل سواسية العبد المملوك والحر فلا أحد ينظر إلى يوسف على أنه عبد مملوك ولا يستحق السماع منه.
4- تقبُّل الإنسان للدين والدعوة لطاعة الله سبحانه وهو في ضيق يكون أكبر بكثير منه مما لو كان في يسر وراحة، ولذا نجده تعالى يقول: { وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}. { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، أي يرجعون إلى الحق والى الله سبحانه، ولا شك أن السجن ضيق وعسر وشدة بالنسبة لأي إنسان، ولذا نجد أن دعوة يوسف إلى التوحيد ورسالته من الله سبحانه شقت طريقها إلى قلوب من كانوا في السجن، فتعاطف معه كثير منهم وآمن به السجين الذي نجا كما تقدم في الإضاءات، فلو لم يكن من دخول يوسف السجن إلا إيمان هذا السجين لكفى.
5- دعوة يوسف إلى التوحيد شاملة لمن خارج السجن ومن في السجن، ولم يكن هناك طريق لإيصال دعوته إلى داخل السجن وبالصورة الصحيحة إلا دخول يوسف بنفسه إلى داخل السجن.
وأخيراً أقول: إن دعوة يوسف إلى التوحيد لم تجد لها موضعاً في المجتمع الذي كان فيه وهو خارج السجن، ولكنها شقت طريقها إلى قلوب الناس لما دخل يوسف السجن، وبدأت الدعوة إلى التوحيد من السجن بداية حقيقية، ولها من يؤمن بها وينتصر لها، وهذا السجين الذي آمن انتصر لدعوة يوسف الإلهية لمَّا وجد الفرصة الملائمة من خلال رؤيا الملك، وهذا المؤمن عرض نفسه للخطر بحساب أهل المادة وهو يخالف ملأ الملك في رأيهم حيث { قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعَالِمِينَ}، ثم يذكر يوسف في محضر الملك وملئه {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ}.
وأخيراً ذهب إلى السجن وخاطب يوسف المتهم والذي سجنه عزيز مصر وبمحضر السجانين بهذا الخطاب {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ}، ليس فقط يعلمون تأويل الرؤيا، بل يعلمون أيضاً بصدقك ورسالتك من الله، ويعلمون بالظلم الذي وقع عليك، لقد اضطر الإيمان هذا السجين إلى ذكر يوسف رغم الخطر المحتمل.
والنتيجة، فإن السجن كان المكان والظرف الذي شقت منه دعوة يوسف إلى التوحيد طريقها إلى قلوب كثير من الناس في مصر، ليؤمنوا بها ويوحدوا الله، بل وآمن بها بعض من كانوا في قصر الملك، واستمر الإيمان بالتوحيد الذي صدع به يوسف في مصر، بل وفي قصر ملك مصر حتى زمن رسالة موسى ، وهذا مؤمن آل فرعون في زمن موسى يذكر يوسف كرسول من الله يؤمن به وبرسالته:
{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ}.
المصدر:
الإمام أحمد الحسن كتاب إضاءات من دعوات المرسلين ج3 ق2
إرسال تعليق