U3F1ZWV6ZTE2MjkyMjc4MjkxMjIzX0ZyZWUxMDI3ODU3Nzk1MzI4Ng==

كيف يتهم يوسف إخوته بسرقة صواع الملك، وهو يعلم أنهم لم يسرقوه، بل هو من وضعه في رحل أخيه بنيامين ؟



جواب الإمام أحمد الحسن:

{ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ}

في هذه الآية اتهم يوسف أخوته بالسرقة وعلى رؤوس الأشهاد {أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ}، ويمكن القول إنه أراد أنهم سرقوه هو من أبيه، إلا أنه يجب الالتفات إلى أنهم أخذوا يوسف من أبيه بإذنه { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، فإنه وإن كان يوسف أراد بتآمر أخوته لإبعاده عن أبيه بأنه سرقة، ولكنه أراد مع هذا سرقة أعظم وأخطر من هذه.

ثم إن يوسف  حدد المسروق { قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}، فالمسروق إذن محدد {صواع الملك}، والمتهم: {إخوة يوسف }، والسؤال هنا: كيف يتهم يوسف  إخوته بسرقة صواع الملك، وهو يعلم أنهم لم يسرقوه، بل هو من وضعه في رحل أخيه بنيامين ؟ ويوسف لا يقف عند هذا الحد، بل يؤكد بأنه هو من يتكفل أمر اتهامهم بالسرقة {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}، ثم يدافع إخوة يوسف عن أنفسهم أنهم لم يأتوا أرض مصر للسرقة، ولم يكونوا سارقين فيما مضى أو معروفين بهذا الخُلق السيء {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ}.

ويعود يوسف  إلى التعريض بهم ويتهمهم هذه المرة بالكذب، فإن لم تكونوا جئتم هذه المرة للسرقة، فأنتم فيما مضى {كنتم سارقين}، فماذا أراد يوسف  بـ (صواع الملك لا السقاية) !؟ ومن هو الملك صاحب الصواع ؟

الحقيقة أنّ يوسف  لم يتهمهم، بل هو متيقن أنهم سارقون، وبالتحديد كما قال هو : صواع الملك، بل وكما بيَّن في قوله: {كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} رداً على قولهم: {وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ}، والآن نعود إلى ما تقدم من مسيرة يوسف  لنعرف ماذا أراد يوسف  بالصواع، ومن هو الملك صاحب الصواع، وكيف أن يوسف هو المخوَّل بالصواع والكيل به للناس دون غيره {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}، أو لو كان السؤال هكذا: ماذا سرق إخوة يوسف  فيما مضى من مسيرته ؟

ربما لا يصعب الآن معرفة أن الصواع هو الولاية، أو قل خلافة الله في أرضه التي هي مقام أو منصب يوسف  كونه وصي يعقوب ، فقد سرقوا مقام يوسف  ومنعوه أن يكيل للناس الهداية إلى الحق ومعرفة الحقيقة، أما صاحب الكيل الذي استخلف يوسف  فهو الله سبحانه (الملك).

إذن، فاتهام يوسف  لإخوته كان في مكانه، فهم سارقون وبالتحديد صواع الملك سبحانه وتعالى، وبالتحديد من يوسف  المستخلف عليه.

وكلام الأنبياء والملائكة وهم ينظرون إلى ملكوت السماوات فهم يريدون بكلامهم ما في ملكوت السماوات، فكلامهم عن الحقائق وما هو معتبر عند الله سبحانه وتعالى، فالناس ينظرون إلى الدنيا والأنبياء ينظرون إلى الآخرة، لأنها محط نظر الله، فكلامهم في هذه الدنيا في كثير من الأحيان يريدون به الآخرة وما يتعلق بها، لأنها محط نظر الله (وإن الله لم ينظر إلى عالم الأجسام منذ خلقه).

وإذا انتقلنا إلى حادثة أخرى ربما تتوضح الصورة أكثر في مسيرة يوسف .

قال تعالى في قص حادثة امتحان داود : {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ * يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}.

وهنا يجب الالتفات إلى أن التسوّر أي عبور الجدار لا يصح على من يقف في المحراب، لأنه ليس سوراً بل داخل بيت العبادة.

ثم إنّ مكان داود  كان عليه حراسة شديدة، فلا يمكن اجتيازها؛ لأنه من ضمن الحرس ملائكة الله. ولذا فداود  فزع منهم وهم طمئنوه {قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ}. وكون المحراب (مكان الصلاة) هو مكان ظهور الخصمين، يدل على أنهما أتيا من جهة الله سبحانه وتعالى، أي من الغيب فهما ملكان وليسا إنسانين. فتسورهما من الآخرة إلى الدنيا من جهة العبادة (المحراب).

فالسؤال: كيف يدَّعي ملك أنه يملك نعاجاً، ومال الملائكة ومال النعاج ؟ ولماذا اختصما وما هي خصومتهما ؟

إذن، القضية ليست قضية نعاج، كما يتوهم من يسمع قصة الملكين مع داود ، فالملائكة معصومون ولا يمكن أن يكون كلامهم فيه كذب، كما أنهم من عالم الملكوت فلا يمكن أن يكونوا رعاة أغنام ويختصمون في نعجة.

والحقيقة، أن الملكين جاءا لامتحان داود ، كما أمرهم الله سبحانه وتعالى وأحدهما خُلِق من تسعة وتسعين اسماً من أسماء الله سبحانه وتعالى، (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة) ، فالملائكة خُلقوا من أسماء الله، كما قدمت فيما مضى من المتشابهات، وكل اسم جناح {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، والثاني خُلق من اسم واحد من أسماء الله غير التسعة والتسعين، وتحت كل من هذين الملكين ملائكة، فهما قادة لملائكة دونهم، فصاحب التسعة والتسعين اسماً يقود تسعة وتسعين نوعاً من الملائكة، لأنه يعرف أسماءهم، ولا أقصد بالاسم هنا اللفظ أو المعنى، بل حقيقة الاسم الممكنة للمخلوق. وهذا الملك طلب من الملك الآخر أن يعلمه ويعرفه حقيقة اسم الملك الذي يقوده هو، وهذا يستلزم معرفة اسم الله الذي خلق منه الملك، وبما انه - أي الملك صاحب التسعة والتسعين اسماً - لم يكن مخلوقاً من هذا الاسم، فهو غير قادر على معرفته، لأن فطرته لم يودع فيها هذا الاسم. إذن، فهو غير قادر على قيادة الملك الذي يقوده الملك الثاني والذي خُلق من اسم يجهله الملك الأول.

وقد طلب الملك الأول من الملك الثاني تعريفه الاسم بأمر الله {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}.

وعبّر الملك عن الملائكة التسعة والتسعين وعن الملك الذي يقوده بالنعاج؛ لأن الأغنام هي أكثر الحيوانات المرعية سلاسة في القيادة وطاعة لراعيها وقائدها، كما أن الملائكة سلسو القيادة ولا يعصون قائدهم، وهذا هو أسلوب إيصال العلم من الملكوت إلى هذا العالم الجسماني، وهو عملية التمثل بما هو موجود في هذا العالم، ليسهل فهم المعلومة والخبر الملكوتي، كما هو حال الرؤيا التي يريها الملائكة لإنسان، فهم يستخدمون هذه الأمور النعاج للتعبير عن الرعية والأتباع، والشمس والقمر للتعبير عن الهادي، والشاي للتعبير عن الهم، وهكذا يستخدمون رموزاً من هذا العالم الجسماني لبيان المعاني، فالنعاج ترمز إلى ملائكة يقودهم هذان الملكان.

هذا بالنسبة لكلام الأنبياء والملائكة، أما القرآن فهو كلام الله سبحانه وتعالى والله ليس كمثله شيء، فكلامه سبحانه ليس ككلام البشر ولا تجري عليه قواعد كلام البشر، بل كلامه سبحانه ليس كمثله كلام كما أنه ليس كمثله شيء.


المصدر:

الإمام أحمد الحسن كتاب إضاءات من دعوات المرسلين ج 3 ق 2.


مواضيع مشابهة:

ماهو سر قميص نبي الله يوسف (عليه السلام) الذي ورد ذكره أكثر من مرة في القرآن؟

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة