نظرية التطور عبارة عن نظرية علمية، ولهذا فنحن عندما نورد نصوصاً دينية متوافقة معها فهذا لا يعني أننا نريد إثبات نظرية التطور من خلال النص الديني، بل غاية ما نريد هو إثبات توافق النص الديني مع هذا الاكتشاف العلمي، وربما أيضاً إثبات أحقية الدين من خلال إثبات المعارف الغيبية التي احتواها النص الديني حيث يمكن أن يقال مثلاً: إن القرآن ذكر التطور في قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً}، وفي حين لم يتمكن الإنسان من اكتشاف هذه الحقيقة العلمية إلا حديثاً، وبهذا تثبت أحقية القرآن وأحقية الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) من خلال إخباره الغيبي عن حقيقة علمية قبل أن تكتشف بأكثر من ألف عام، ومثله يمكن أن يقال في إخبارات آل محمد (عليهم السلام)، حيث أخبروا قبل أكثر من ألف عام عن وجود النسناس أو أشباه الناس قبل وجود الإنسان، وهذه حقيقة علمية اكتشفت الآن، فبحسب البحوث الجينية ثبت وجود إنسان النياندرتال المختلف جينياً عن
الإنسان الحديث، كما اكتشفت احفوريات الهومو إركتس والهومو سابينس الأفريقي.
- قوله تعالى: { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً * وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتا} 1.
{وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً}: الطور هو الحال المميزة المترقية ، وسمي الجبل طوراً لتميزه بالارتفاع والارتقاء عن محيطه ، ويسمى الطائر (وجمعه الطير)؛ لأنه يتميز بامتلاكه أدوات تمكنه من الارتفاع والارتقاء نحو الأعلى عن محيطه عادة وهي الأجنحة ، والأطوار: هي الحالات المتميزة المترقية والمرتفعة، وبهذا يكون معنى {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} : إنّ الله خلقكم في الماضي الذي تحقق وانتهى 2 ومررتم بأحوال متعددة ومتميزة ومترقية، أي أطواراً جسمانية مترقية تصاعدياً مررنا بها حتى وصلنا إلى جسم يمتلك آلة ذكاء فائق، وبالتالي أصبح مؤهلاً فاتصلت به نفس آدم (عليه السلام)، ولا يمنع أن تكون أطوار الترقي أنجزت خلال مليارات السنين حتى وصل الأمر إلى الجسم المناسب لنزول نفس آدم (عليه السلام) وبثها في فرد منه وهو في الرحم.
{ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً }: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ: أي إذا أردتم معرفة كيف خلقكم أطواراً فهي مسألة تشبه مسألة السماوات. إذن، فالأطوار إذا لم تتضح لنا سابقاً فهي تماماً كحال السماوات السبع التي تتميز بأن بعضها فوق بعض وبعضها أرقى من بعض رتبة، إذن هذه الآية أوصلتنا إلى نفس النتيجة السابقة وهي أن جسم آدم مرّ بأطوار ترق كما أن السماوات تتدرج بأطوار ارتقاء وترق.
{وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً}: أظن أنّ هذه الآية لا تحتاج أي شرح لشدة وضوحها، فالآية تقول أنتم بذرة بذرت في هذه الأرض ونبتت وأنتجت.
كالنبات أنبتكم الله والنبات لا ينتج مباشرة بل يمر بأطوار ويترقى، فالبداية تكون بذرة صغيرة تبذر في الأرض وتسقى الماء، ثم تنبت نبتة صغيرة من البذرة والأرض والماء وتكبر هذه النبتة وتترقى ومن طور إلى طور حتى تكتمل وتبدأ بإنتاج الثمر، وهذا هو ما حصل معكم، خريطة الله الجينية بذرت في هذه الأرض وترقت حتى وصلت إلى منتهاها وحققت الغرض، وسيأتي إن شاء الله بيان كيف أن هذه الخريطة هي دليل واضح على وجود الله سبحانه وتعالى، وبهذا تكون نظرية التطور دليلاً على وجود الله سبحانه وتعالى وليس العكس.
- قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} 3.
{ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ من سُلَالَةٍ مِّن ماء مَّهِينٍ } 4.
السلالة: هي المجموعة المنتقاة والمستلة من غيرها لتميزها وأفضليتها على ذلك الغير الذي استلت منه، فمعنى قوله تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِن طِينٍ} أي إنّ الإنسان
الأرضي الأول خلق من مجموعة مميزة ومفضلة (سلالة)، وتلك السلالة تنتهي سلسلتها إلى الطين {سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ}.
- قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ } 5.
{ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ }: بما أنّ آدم (عليه السلام) هو الإنسان الأول في السماء الأولى فلا يمكن أن يقال: إن نفسه اصطفيت؛ لأن الاصطفاء لابد أن يكون من مجموعة، فلا يمكن أن ينطبق هذا الاصطفاء إلا على الجسم الأرضي الذي اتصلت به نفس آدم (عليه السلام)، وهذا معناه أن هناك خلقاً أرضيين آخرين كانوا موجودين واصطفى الله جسم آدم من هؤلاء أشباه الناس، فالإصطفاء لا يكون إلا من المماثل، وآدم كجسم يشبه من ولد بينهم وكنفس آدمية أولى بثت بينهم، يصدق عليه قول إنه أصطفي منهم. أما القول إن إصطفاء آدم من بقية المخلوقات فهذا كلام لا يستقيم فما معنى أن تقول إنك اصطفيت فرداً إنسانياً من بين مجموعة من السباع والبقر والحمير.. الخ، هل هذا الكلام له معنى ؟ أو حتى ينطق به حكيم؟!!
- قوله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) 6.
لفظ الماء في هذه الآية بالنسبة للوجود ككل لا يراد منه الماء (H2O) الذي نعرفه في الأرض، وقد بينت هذا الأمر سابقاً، ولكن بالنسبة للحياة الأرضية الجسمانية فقط سيكون معنى هذه الآية أن الحياة على الأرض بدأت من الماء الأرضي {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء}، وهذا يعني بوضوح أن بداية الحياة الأرضية كانت من الماء الأرضي، فالآية تبيّن أن البذرة الأولى للحياة كانت من البيئة المائية وما تحويه من مكونات ترابية (أو كيميائية) ، وهذا موافق تماماً لنظرية التطور، أما استمرار الحياة على الأرض فهو ليس من الماء وما يحويه. نعم، يمكن أن يقال: إن استمرار الحياة في الماء أو بواسطة الماء ولكن ليس من الماء، فالحياة المنتزعة من الماء والتراب الذي يحويه هي الحياة الأولى فقط.
المصدر:
كتاب وهم الإلحاد للسيد أحمد الحسن ص 132-134.
مواضيع مشابهة:
نظرية التطور لا تتعارض مع الدين.
1. القرآن الكريم - سورة نوح - الآيات: 14 - 17.
2. "قد": حرف تحقيق هنا أي إنّ خلقكم أطواراً قد تحقق وانتهى فيما مضى، وبهذا يكون المراد بالأطوار هي أطوار الترقي والتطور الجسماني التي سبقت إنزال نفس آدم (عليه السلام ) إلى هذا العالم واتصالها بجسم آدم (عليه السلام).
3. القرآن الكريم - سورة المؤمنون - الآيات : 12 - 13.
4. القرآن الكريم - سورة السجدة - الآيات: 7 - 8 .
5. القرآن الكريم - سورة آل عمران - الآية 33
6. القرآن الكريم - سورة الأنبياء - الآية: 30
إرسال تعليق